باســم الحــــــب!
لا أعرف من أين أبدأ قصتي, فقد قررت أن أكتب إليك بعد تردد دام أكثر من8 سنوات,
كنت أظن فيها أنني الجاني علي نفسي ولكنني اكتشفت في النهاية أنني المجني
عليه, وأنا أري الآن إن كنت أقسو علي نفسي99% فيجب أن أتعاطف معها ولو
بنسبة1%.
أنا طبيب شاب عمري52 عاما. وأنا الابن الأكبر من3 أبناء ـ لأستاذ
بكلية الطب باحدي جامعات الأقاليم وأمي طبيبة أيضا. والدي رجل مكافح توفي
والده وهو في المرحلة الثانوية واستطاع أن يحقق أعلي المراكز العلمية دون
اخوته, وكان دائما يرفض البعثات التي تعرض عليه حتي يرعي والدته وأخته
الصغري, وكان الجميع دائما ضده حتي والدته واخوته, وهو مازال يعاني من
ظلم اخوته له حتي الآن فهم يرفضون اعطاءه ميراثه الذي يقدر بالملايين
وينازعونه في المحاكم حتي في أملاكه الشخصية التي بناها من كده وعرقه
وسنوات الشقاء والغربة, وقد كان يعمل بالخليج لفترة ثم عاد لمصر منذ ثلاث
سنوات ولكنه لم يستطع مقاومة الضغوط المادية والنفسية التي لم يشعر بها
أبدا وهو بالخارج, فقرر السفر مرة أخري منذ عام, ليعود للخليج.
لقد شرحت لك يا سيدي ظروف والدي باختصار حتي تستطيع أن تحكم من خلالها علي قصتي, فأنا أشعر أن قصتي غير تقليدية بالمرة.
إن والدي يا سيدي رجل شديد العصبية أحيانا وهاديء جدا أحيانا أخري,
ودائما يمطرني بالنصائح ويحاصرني بالقيود منذ دخلت عامي الأول بالمدرسة,
فهو يريدني دائما في أعلي المراكز, فكان علي قدر محبته لي يقسو علي
ويضربني, حتي أنني لا أنسي أنه في مرة ظل يضربني علي رأسي لدرجة أنني
فقدت النطق للحظات, ولم أقو حتي علي الصراخ كي أعبر عن ألمي فالتعبير عن
الألم والتعب دائما ممنوع, دائما ما كان يذكرني بنعم الله علي حتي أنني
أشعر بالرغبة في فقدانها حتي لا يذلني بها, لا أعلم بماذا أشعر الآن؟ هل
أشعر بهذه النعم؟ أم أريد أن أفقدها؟ فأنا دائما في حالة هلع وخوف من فقدها
من كثرة ما كان يذكرني بها هو وأمي, وأشعر في بعض الأحيان بالخوف من
فقدان نعمة المأكل والملبس ونعمة الأب والأم والاخوة. بالمناسبة لم أذكر
لك كم أحب اخوتي وكم أشعر بالندم علي ما فعلته بأخي الأوسط عندما كنت
صغيرا( فهو أصغر مني بأربع سنوات) لقد كان أبي وأمي يطمئنان دائما
لوجوده معي, حتي أنهم كانوا دائما يتركونه معي عندما يذهبون للعمل,
وكنت أمارس عليه كل صنوف التعذيب والاهانة, فقد كنت أفعل معه مثلما كان
أبي وأمي يفعلان بي, وكنت أعتقد أنني كنت المسئول عن تربيته بما أنني
مسئول عن اطعامه واستحمامه ولعبه ونومه ومذاكرته, لقد جعلت من أخي مسخا
لا أقوي أنا شخصيا علي معاشرته الآن, عندما كنت في الخليج مع والدي كنت
ألعب والهو وأنام كما يحلو لي واستيقظ واتصنع المذاكرة والجد والاجتهاد
عندما يرجعون من العمل, فقد كنت اسمعهم يتآمرون علي في احدي المرات فقررت
أن أقوم بدور الممثل القدير حتي أنال رضاهم, لقد كنت أنام أيام الثانوية
العامة بالستة عشرة ساعة, وألهو بقية اليوم, وكانت محصلة المذاكرة لا
تتعدي الساعتين يوميا, وكان الجميع يتعجب كيف حصلت علي مجموع عال يؤهلني
لدخول كلية الطب, لقد جعل مني أبواي جاسوسا وممثلا وحقيرا لأبعد
الحدود, لقد كنت أتجسس عليهم ليلا حتي أعلم ماذا يقولان عني فقد كنت
شاغلهم الشاغل, قد تسألني ماذا فعل أبواي حتي أصل لهذا المستوي وأسلك هذا
الطريق؟ سأقول لك يا سيدي كل شيء بالتفصيل:
أولا: دائما ما يذكراني بنعم الله علي
من أب وأم وعائلة كريمة وأصل طيب ومأكل حسن ومشرب جيد حتي أنني أصبحت أعيش
في حالة هلع وخوف دائم من فقد هذه النعم.
ثانيا: يقارناني دائما بالأفضل مني
والأقل مني ويشعرانني دائما أنني أقل من الاثنين, فأنا لا أذاكر مثل فلان
ولست مؤدبا مثل علان, وأن فلان يجعل ابنه يعمل في اجازة الصيف بينما أنت
تجلس في بيتك, وأن الطفل الفلاني يتيم ويتحمل مسئولية أسرته في سن
مبكرة, وأن الطفل العلاني أبواه يضربانه باستمرار بينما نعاملك معاملة
كريمة.
ثالثا: يشعرانني دائما أن الناس كذابين
وأنه يجب ألا أثق في أي أحد مهما كان لانهما فقط اللذان يريدان مصلحتي,
وأن الناس حتي لو قدموا لي النصح فانهم يريدون منه الضرر ولا يريدون منه
النفع.
رابعا: بعد دخولي الكلية بدأ الصراع الدائم علي المذاكرة وأنني يجب أن أتفوق حتي أصبح مثل والدي وحتي لا أكون أقل من فلان أو علان.
خامسا: الحصار المستمر علي كل تحركاتي
سواء أثناء الكلية أو بعد التخرج: أين تذهب؟ من أين ترجع؟ مع من كنت
تتحدث؟ مع من تتحدث في التليفون؟ لقد أطلت المحادثة في التليفون, لا تجلس
أمام التليفزيون, لماذا تحدثت مع ابنة الجيران؟ فيما كنتما تتحدثان,
يجب ألا تكون لك علاقات عاطفية, لا تثق بأصدقائك, يجب ألا تكون صداقاتك
قوية حتي لا تضيع وقتك معهم في الحديث أو اللعب وحتي لا يضلوك, ويفتشان
في أشيائي, ويردان علي تليفوني المحمول, ويقرآن رسائلي الخاصة وتكون
محور حديثهما واستهزائهما, يمنعانني من قيادة سيارتنا الخاصة, ومن
الدخول علي الإنترنت إلا تحت رقابة شديدة جدا, حتي الأكل يجب أن تأكل هذا
ولا تأكل ذلك وتكثر من هذا ولا تكثر من ذاك, والملابس يجب ان تكون
باختيارهم وعلي ذوقهم الخاص بغض النظر عما يلبس الشباب فشكل النظارات
والبنطلونات الجينز والتي شيرتات مختلف من عصر لعصر, والحصار الشديد علي
طريقة أكلي وشربي وكلامي وتعاملاتي.
وإليك يا سيدي النتيجة والحال الذي وصلت إليه:
أصبحت اضحوكة زملائي, إنسان بلا شخصية, فقدت ثقتي بنفسي, وثقتي بجميع
الناس بلا استثناء, كذاب, منافق, لا أستطيع التركيز في العمل ولا في
مذاكرة الماجستير, متشائم, غير متدين, مدخن, وشره جنسيا, أشعر
بأنني بلا مستقبل.
والمفاجأة في هذه القصة أنني الآن مريض بالوسواس القهري وأعالج منه منذ4
سنوات وبلا فائدة, حتي أن الأطباء معظمهم فشل في تشخيص حالتي في أول
الأمر حتي ذهبت لطبيب مشهور استطاع أن يعالجني لمدة عام ثم سافر للخليج,
فتابعت مع طبيب آخر مشهور, ولكني الآن أعاني تزايد حدة الأعراض والوساوس
منذ أكثر من عام.
أنني يا سيدي لا أتذكر من شدة الوساوس كم قمت بتكرار الفعل, وأقوم بنزع
شعري من جميع أنحاء جسمي, الوساوس الجنسية التي أعاني منها لا أجد لها
علاجا, أشعر أنني فاشل في كل شيء فقد فشلت عاطفيا عندما رفضتني زميلتي
وحبيبتي, وفشلت في دراستي عندما لم أصل للتعيين في الجامعة, وأشعر أنني
لا أقوي علي فعل أي شيء بالطريقة الصحيحة, حتي عندما أقود السيارة(
ووالدي بجواري طبعا) أشعر بأن قلبي سيقف من شدة الخفقان والخوف من كثرة
التنبيهات والتحذيرات, انهم لا يثقون بي في أي شيء حتي اننا نمتلك
سيارتين ولا أجرؤ علي قيادة أي منهما, وعندما أخرج مع أحد أصدقائي( وهم
بالمناسبة اثنان فقط) تحاصرني رنات المحمول في كل جانب. أشعر أنني
سأفشل في كل شيء في حياتي, حياتي العملية, والماجستير, والحياة
العاطفية والزواج, فأنا لا أتخيل أنني سأجد الإنسانة التي تستطيع أن
تحتويني بكل مشاكلي وعللي, حتي أنني في بعض الأحيان أقول يا ليتني استطيع
أن أجد في الإنسانة التي سأحبها نفس الصفات القذرة التي أعاني منها حتي
نستطيع أن نتفاهم ويحتوي أحدنا الآخر. فأنا يا سيدي حتي الآن وعمري52
عاما محروم من الإنترنت والتليفزيون وركوب السيارة والزواج والتنزه مع
الأصدقاء, حتي أنني أصبحت أجد متعتي في كل ما هو سري وبعيد عن الأعين
كممارسة العادة السرية والتدخين, انني احتاج وأريد حضنا دافئا وقبلة
ساخنة ولمسة حنان من زوجة وليس من أبواي ولا أعلم لماذا؟
لقد فقدت المتعة في أي شيء وحتي الرغبة في الحياة فأنا أعتقد أن الموت
والحياة الأخري في جوار الرب ورحمته أفضل بكثير من الحياة مع هؤلاء
البشر.
وفي النهاية يا سيدي انني أريد من هذه الرسالة هدفين:
أولهما: فمع كل ما فعله أبواي بي أحبهما واحترمهما.
ثانيهما: أن أفتح الباب علي مصراعيه لمناقشة مشكلتي الاجتماعية
والنفسية, وأن أجعل جميع الأبناء يتكلمون ويصرخون بأعلي صوتهم لا, ثم
لا, وهي الكلمة التي لا أستطيع أن أقولها لأي أحد أولهم والداي.
وأنادي في نهاية رسالتي يا أيها الآباء والأمهات ليست التربية في المأكل
والملبس والمشرب والتعليم والشهادات وإنما في الاحتواء والتفاهم وليس
الاحتواء والتفاهم بالضرب والشتائم ولا بسيول النصائح المملة المتكررة ولا
بالإكراه, وانما بالصبر علي الأبناء وطول البال والحرية لها حدود وليس
لها قيود.
< سيدي... لقد أصبحت خبيرا نفسيا, تعرف داءك
ودواءك... تشير من بعيد للأسباب التي جعلت والدك يدعوك لعدم الثقة في
الناس بعد ما ذاقه من أهله... وتعرف جيدا لماذا كنت تقسو علي أخيك
الصغير, كي تنتقم من والديك وتستعذب عذابه حتي تؤكد لنفسك أنك لست وحدك
في العذاب..
تجد متعتك في كل فعل سري, وهذا الفعل, وهذه المتعة دائما ما تكون في
الخطأ.. الخطأ الذي تستمتع به لأنه يناقض كل نصائح وتوجيهات والديك...
فقد كرهت النجاح, والتميز لأنهما يدفعانك إليهما, وأنت لا تريد
إرضاءهما!
نعم سيدي, شوه والداك شخصيتك باسم الحب, وأسقط عليك والدك إحباطه وغضبه
من أمه وأخوته باسم الحب, ولا أعرف كيف يري أب أو أم الضرب القاسي
للأبناء حبا.
كثير مما قاله لك والدك أو والدتك عن نعم الله عليك وأصلك الطيب حقيقي,
ولكن هل في هذا ما يستحق أن يتحول إلي من أو تخويف من الفقد أو الحرمان.
كثير من الآباء, خوفا من تأثير الآخرين علي أبنائهم يبالغون في تحذيرهم
بألا أحد يحبهم, ولا ينصحهم, ولا يقدم لهم شيئا بدون مقابل أو أغراض,
وأنهما ــ الوالدان ــ فقط هما المخلصان, وهذا الأسلوب يؤدي إلي إنعزال
الأبناء وفقدانهم الثقة في أنفسهم, وفي الآخرين.
باسم الحب, نضع أبناءنا في حالة مقارنة مع أشقائهم وأقاربهم وأصدقائهم,
ننتقي من كل واحد صفة حسنة ونواجههم بها حتي نثبت لهم دائما أنهم أقل
وعليهم ألا يعتقدوا أبدا أنهم الأفضل, بل عليهم بذل المزيد من الجهد حتي
يصلوا إلي ما وصل إليه الآخرون.. والنتيجة هي إحساس دائم بالفشل واليأس
من النجاح والتميز, فيما التربية الحديثة تدعو إلي دعم الثقة وتعزيزها في
نفوس الأبناء مع إعلاء قيمة المزايا الخاصة مهما صغرت والتركيز النفسي علي
نقاط القوة وتعظيمها, بدلا من البحث عن صورة مكتملة للابن, كل جزء
فيها يشبه واحدا آخر ممن حوله.
الحب لا يعني أبدا أن نلعب دور الشرطي, فنفتش في أفكار أبنائنا, كما
نفتش في ملابسهم, وهواتفهم ورسائلهم, فنصيبهم بالقلق والخوف, وعدم
الاعتماد علي النفس, والقدرة علي مواجهة الحياة.
سيدي... يمكنني الحديث طويلا حول ما كتبت, ولكن لأني أومن بقدراتك
الرائعة في فهم ما أنت فيه, وكيف وصلت إليه, لن أزيد, بل سأدعوك أن
تقول بكل الحب والأدب لوالديك: لا... ثم لا, فالرفض هو بداية
الشفاء, ليس الحل فقط لدي الطبيب النفسي ـ وإن كان له دور رئيسي في مثل
حالتك ــ ولكن من مثلك يحتاج إلي وقفة مع الآخرين...
فالحياة أختيار, وليس مجديا أن نستسلم لوعينا بما نحن فيه وفهم لماذا
وصلنا إليه, بل الأهم هو اتخاذ قرار النجاة, فالحياة مشرعة أمامك
والمستقبل ينتظرك, فلا تستكن بجوار جدرانه, اقتنص حريتك وثقتك بنفسك مع
متابعة طبية, سنكسب طبيبا واعيا قادرا علي الحب والعطاء.. لابد أن
تنجو يا سيدي, حتي لا يدفع أبناؤك ثمنا لأخطاء لم يرتكبوها.. فهل تفعل
وتطمئننا؟!
وإلي لقاء قريب بإذن الله..
********************
المصدر
( بريد الجمعه , جريدة الاهرام )