في قديم الزّمان، عاش سلطان يحبّ الكذب حبَّاً جمَّاً، فكان لا ينطق بأية كلمة إلاَّ إذا تأكد من كذبها حتّى إنّه كان لا ينطق بحرف الصاد كي لا يذكّره بكلمة صدْق.
باختصار.. كان الكذب يسري في عروقه.
مرّة.. أحسّ أن أكاذيبه أصبحت مكرّرة، لذا أعلن عن مسابقة للكذب ليرفع من سويّة كذبه، وجعل جائزة أكبر كذبة صندوقاً كبيراً مطعّماً بالصدف غير أنه لم يكشف عن محتوياته.
وحان موعد المسابقة، وتجمهر النّاس وأشار السّلطان للمتسابق الأوّل بالكلام، فقال:
-كنّا.. يا سلطان الزّمان.. ثلاثة، هاجَمَنَا المَحْلُ صرنا ستة، عاش من عاش ومات من مات، أصبحنا اثني عشر. ذات يوم ذهبنا إلى حمَّام السوق فانزلقنا في سواقيها، رجعنا ثلاثة، الأول أطرش.. الثاني أعور.. الثالث أعرج.
قال الأطرش: أنا أسمع صوت بعوضة في أعلى سمائها.
قال الأعور: صحيح.. فعيني تراها.
قال الأعرج: هيَّا لنركض وراءها.
ركضنا.. فوجدنا برغوثاً يسلخ جملاً، وقفنا عنده، قلنا: ألا تعطينا فخذاً؟ قال حصّلوها وخذوها.
المهم.. حصّلنا الفخذ، وقصدنا عجوزاً مشطها في جيبها زيّن الله شيبها، قلنا لها: ألا تطهين لنا هذه الفخذ؟ قالت عندي طنجرة (شرقه.. مرقه) تأكل اللحم وتترك المرق، أعطيناها الفخذ، جئنا بالخبز، فتتناه في صينيّة كبيرة، دلقنا فوقه المرق، ورحنا نأكل بالمغارف، حتّى إننا لم نترك فيها لقمة واحدة.
ضحك السلطان فور انتهاء المتسابق من سرد كذبته، قال: أين الكذب؟ إنّك لم تذكر حتى كذبة ضئيلة بحجم رأس الدبّوس، هيا اذهب وافسح المجال للمتسابق الثاني.
ويتقدم رجل أحمر الشّعر، يرتدي ثياباً ريفيّة، يحيّي السّلطان ويقول:
-يا سلطان السلاطين، ذهبتُ البارحة إلى البيدر، فرأيت الفلاَّحين يحصدون البيض، يكوّمونه ويدرسونه قلت لحالي: لماذا لا آتي بالجحش وأملأ خرجه بالبيض؟ أي والله.. ركضتُ مثل الريح، جئت بالجحش وملأت عِدْلَي الخرج بالبيض، ولحسن الحظ كان عِدْلاً الخرج مثقوبين، والبيض يقع على الأرض، ينكسر.. يتحول إلى دجاج ويركض ورائي، حتّى إنني عندما وصلت إلى البيت وجدت خلفي دجاجاً كثيراً، فتحت له الباب (ادخل.. بيت.. بيت) دخل الدّجاج، نظرت إلى الخرج، وإذا ببيضة كبيرة، مددت يدي لأمسكها، وقعت وفقست جملاً، أنخت الجمل.. وضعت عليه حملاً ثقيلاً.. فانعقر سنامه، أخذته إلى البيطار، قال: ضع له قشرة جوز مكان العقر، وضعت له القشرة، وإذا بشجرة جوز كبيرة تنبت فوق سنامه، فجأة.. أزهرت الشجرة وأثمرت، قطفتها فجمعت قنطاراً، لكن بقيت حبة جوز في رأسها، أمسكت طينة وضربتها، وإذا بالطينة تتحوّل فور ملامستها حبّة الجوز إلى أرض (حمرا نفرا ما فيها حشيشة خضرا) قلت: سأحرث الأرض. أحضرت مقلاعاً، وضعت فيه الثور ورميته، وضعت عُدّة الحراثة ورميتها، ثمّ وضعت نفسي ورميتها.
حرثت الأرض وزرعتها بالسمسم، مرّ أحدهم.. قال: أخطأت، المفترض أن تزرعها بالبطّيخ. قلت: بسيطة: سأزرعها بطيخاً، ناديت أولاد الجيران ورحنا نلمّ السمسم المبذور، وفور انتهائنا وجدته ناقصاً حبة، بحثنا عنها، هنا.. هناك، أخيراً.. وجدناها في فم نملة، أمسكنا الحبّة، شدّت شددنا، انعفست الحبّة فغرق أولاد الجيران كلّهم في بحر السّيرج، تركتهم وجئت إلى هنا.
قطّب السّلطان جبينه، نظر إلى الرجل بقسوة، قال:
-يا لك من رجل أحمق، الظّاهر أنّك لا تفهم الكلام، أنا أقول لك أريد سماع كذبة كبيرة، وأنت تسرد عليّ حكايات لا تحوي حرفاً كاذباً، هيا.. استدر واغرب عن وجهي.
استدار الرّجل مكسور الخاطر، ومَثَلَ أمامه رجل لمّاع العينين.
-أيُّها السّلطان المبجّل.. عندي كذبة مُتَبّلة.
نظر السلطان إليه، قال: هاتِ أسمعني.
-احم.. احم، منذ ثلاثين سنة استدان والدكم السلطان الأعظم جرة مليئة بالذهب الخالص من والدي.
فتح السلطان فمه دهشاً، قال:
-ماذا تقول يا مجنون! والدي أنا يستدين من والدك جرّة مليئة بالذهب؟
-مولاي.. إن كنت كاذباً، فقد فزت وأصبح الصندوق من حقّي، وإن كنت صادقاً.. ردّ لي مال أبي.
حكّ السلطان جبينه، قال لنفسه: فِعلاً إنه لكذَّاب محترف، لكنه أبداً لن يكون أكذب من السلطان.
ثم صاح:
-هيه.. أنت، لقد فزتَ بالمسابقة، واستحققت لقب أكبر كذَّاب في البلاد، هيا.. تقدم وخذ الجائزة.
نظر الرّجل إلى الصندوق بعين حالمة، تراءت أمام عينيه صور اللؤلؤ والمرجان والفيروز والذهب والفضة و...
ركض نحوه فرحاً، نزع القفل، فتح الغطاء. و... شهق مذعوراً.
هرع الناس إليه مستفسرين، نظروا داخل الصّندوق، وقعت عيونهم على الحجارة والحصى، فشهقوا واجمين.
أمَّا السلطان.. فكان الوحيد الذي يقهقه، وكأن أحداً يدغدغ خاصرتيه.
((وتوته توته.. خلصت الحدوتة))
بقلم الكاتب : خير الدين عبيد